دُم تك..دُم تك..!!قــصــة قـصـيـرة بقلم: أحمـد قعبــور

دُم تك..دُم تك..!!قــصــة قـصـيـرة بقلم: أحمـد قعبــور

--------------------------------------------------------------------------------

دُم تك..دُم تك..!!
قــصــة قـصـيـرة

بقلم: أحمـد قعبــور



كبت ضابط الإيقاع غيظه وتكوم على كرسيه المعتاد عند طرف المسرح، وضع الرق على الارض وراح يتأمل أصابعه حين انهالت عليه ملاحظات المغني الوسيم. هدوء غريب عم المكان، هدوء لا يدري كيف تسلل في عروقه. نظر عازف الناي في وجه الملك، كان هذا لقبه، وأخذ يرسل نغمات حزينة من مقام "الحجاز"، كان يعرف انه يحب "الحجاز"، طأطأ ضابط الايقاع رأسه المتعب وأرخى يديه وأحس أن أصابعه المتخشبة ستسقط على الارض، حدق في جلدة رقه القديم فبدت له شفافة متلألئة وبدأت تتسع على إيقاع نغمات الحجاز لتصل الى أمكنة كان قد نسيها، تراءى له وجه ابيه وسط بيارة الليمون في حيفا، تناول الملك الرق عن الأرض وكادت عيناه الغائرتان تفلتان من محجريهما. إنه أبوه بقامته المديدة ووجه الباسم… إنه هو… يحمله طفلاً ويجوب به بيارات حيفا… وهذه هي "أم الخير" شجرة الليمون التي سماها أبوه على إسم جدته… إنها "أم الخير" التي تعلم بظلها أول إيقاعاته (دم…تك…دم…تك) وتسارعت الصور على وجه الرق، وجه اشقر يتلو على ابيه بيانا لم يفهمه قط (دم…تك…دم…تك) أمه تندب أخاه وسط الندابات (دم…تك…دم…تك) اخته الكبيرة تصرخ به "أسرع" فيما والده جثة هامدة تحت "أم الخير" (دم…تك…دم…تك) وفجأة بدأت تنحسر شفافية الرق وبدت جلدته جافة سميكة، انتصب ضابط الإيقاع وأطلق صرخة دوت في أرجاء المسرح: "أين الإيقاع؟" التفت العازفون إليه فيما وقف المغني الوسيم مشدوها… اقترب عازف الناي النحيل من "الملك" وارتسمت على وجهه اسئلة محيرة: "ما الأمر يا ملك؟" تكوم ضابط الإيقاع على كرسيه من جديد وهمس: أرجوك لست ملكا ثم اغتصب ابتسامة حمقاء وقال للمغني الوسيم: آسف يا أستاذ.. أنا حاضر ولك من إيقاعات على خاطرك.. تنحنح المغني الوسيم ورفع غرة شعره المملس وقال بلهجة أبوية مفتعلة: شئت أم أبيت أنت الملك.. ملك الإيقاع.. أنت الوحيد الذي يفهم مزاجي.. أنت الوحيد الذي يفهم إيقاعي. غدا ستكون الحفلة وسترى ماذا سنفعل أنا وأنت بالجمهور، لحظات وانصرف المغني الوسيم وتفرق العازفون فيما وقف عازف الناي ينتظر صديقه الملك عند باب المسرح.

ليلتها لم يرجع ضابط الإيقاع إلى غرفته الموحشة إنما استلقى على سرير عتيق خلف الكواليس يتأمل جلدة رقه. لم يكن المغني الوسيم ينتظر هذا الحشد في حفلته فقد تكدست المعاطف والبدل على المقاعد ولم يظهر من وجوه المحتشدين في الصالة سوى عيون بلهاء وأفواه مفتوحة. ظهر المغني الوسيم على خشبة المسرح فتعالت الصيحات ودوى التصفيق، أعطى إشارة البدء وبدأت الحفلة وسط أمواج من العطور كـادت تخنق الملك وما هي إلا لحظات حتى كادت تنهدات المغني الوسيم تدمي القلوب النساء الحيارى وتنتزع اَهات الرجال. كان إيقاع الملك عنيفاً وغريبا مما أسعد المغني الوسيم وأثلج صدره فحمل المذياع واقترب من الملك وراح يتمايل له إعجابا به.

وكان كلما اقترب ازدادت عينا الملك جحوظا وإيقاعاته عنفا، لم يهدأ الرق بين يديه برهة واحدة، كان يسعى الى شيء ما لم يدر ما هو، كان يضرب بجنون لفت أنظار الجمهور وانتزع منه صيحات الإستحسان، برافو يا ملك. بعد قليل لاحظ المغني الوسيم ان كل الأنظار تتجه إلى الملك فأنهى أغنيته قبل أوانها وانحنى امام الجمهور، كان ضابط الإيقاع يلهث، كان يحدق في رقه بحثا عن شيء ما.. لم ينتظر المغني الوسيم طويلا كي يعطي عازف الناي إشارة البدء بالأغنية التالية، حمل النياتي قصبته والتفت إلى الملك. سادت لحظات صمت عميق. وراح العازف النحيل يرسل نغمات بعيدة وكأنها تأتي من مكان عميق في ذاكرة الملك، كانت تنساب وتأخذ شكل البيارات وتحمل عطر زهر الليمون...

لم ينجح المغني الوسيم أن يقنع عازف الناي بنظراته المستهجنة ضابط الإيقاع يتأمل جلدة رقه التي بدت شفافة من جديد.. أم الخير ها هي.. و ها هو أبوه يعلمه الإيقاع الأول (دم..تك..دم..تك) سمع صوت الندابات (دم..تك..دم..تك) نغمات الحجاز تملأ المكان (دم..تك..دم..تك) عيون الحيارى تزداد بلاهة وأفواه الرجال تزداد اتساعا (دم..تك..دم..تك) لم يعد الرق بين يديه مجرد آلة إيقاع، تحول إلى غصن أخضر من أغصان "أم الخير" وفجأة وقف ضابط الإيقاع صارخا: لست ملكا. وأمسك بعنق المغني الوسيمك أين إيقاعي.. ماذا فعلت بإيقاعي.. رد لي إيقاعي. حاول بعض الرجال الإقتراب منه فقفز إلى الصالة ويداه تضرب على الرق إيقاعه الاول، خرج من الصالة وأخذ يركض في عتمة الشارع: أين إيقاعي.. ردوا لي إيقاعي دم..تك.. دم..تك.. دم..تك.. دم..تك..

-----------------------------------

الفنان أحمد قعبور، هو مغن وملحن لبناني، من مواليد بيروت عام 1955، يعمل حاليا في مديرية شؤون المسرح والسينما والمعارض في وزارة الثقافة اللبنانية. له عشرات العمال الغنائية وأشهرها مجموعة أغاني أناديكم كما وللفنان مساهمات مسرحية وسينمائية.